تأملوا مقولة المفكرين والفلاسفة القدامى: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد.” ما أول ما يتبادر إلى أذهناكم؟
في الحقيقة هذه المقولة تؤكد على أن الدراسة وتلقي العلم لا حد لهم وأن تبادل الخبرة لا يقتصر على فترة عمرية محددة لا بل يجب أن يستمر مدى الحياة وأن كلمة التعليم ليست مقتصرة فقط على الأطفال لأننا بالعادة عندما نقول “تعليم” غالًبا ما يتبادر إلى أذهان البعض؛ طلاب يتصفحون الكتب وصفوف دراسية ومعلمون يشرحون الدروس.
لماذا؟ لأن الانطباع الأول الوارد في أذهاننا عن التعليم والتعلم أنه أكثر شيوعًا بين صغار السن وكلما زاد عمر الأشخاص قل اهتمامهم بالتعلم، الا أن هذا التصور غير صحيح على الإطلاق لأن مصطلح تعلم الكبار أو التعلم مدى الحياة أو التعليم المستمر أصبح من المفاهيم الأساسية التي تؤكد على مدى كفاية المتعلم الكبير وأهليته للقيام بمهام عمله، وفقًا لما أشارت له مؤسسة التعاون الدولي التابعة للجمعية الألمانية (DVV International) عندما أكدت أن كفاية تعليم الكبار والتعليم المستمر أصبحت تُدرج ضمن الكفايات الأساسية لأداء العمل في 67% من المؤسسات الألمانية الخاصة بالعمل النظامي.
في هذا المقال سنعرفكم بالتفصيل على مفهوم تعلم الكبار والنظريات الخاصة بتعلم الكبار لكن بدايةً دعونا نسألكم: ما هي الصعوبات التي قد تواجهكم كمتعلمين كبار وتعيق عملية تعلمكم؟
بالتأكيد أن هناك أشكال متعددة من التحديات والصعوبات التي قد تواجه الكبار أثناء عملية تعلمهم نذكر منها:
يجد الكبار صعوبة كبيرة في إيجاد الوقت المتاح والكافي لعملية التعلم لأكثر من سبب منها تعدد انشغالات الحياة وتعدد المسؤوليات… إلخ.
قد يشعر الكبار أحيانًا أنهم أصبحوا أقل قدرة على تلقي المعلومات وفهمها واستيعابها بشكل جيد أو قد يشعرون أن الأوان قد فات على تلقي معارف ومهارات جديدة الأمر الذي قد يؤدي إلى الشعور بعدم الثقة بالنفس.
- المرونة العصبية أو ال Neuroplasticity
هل سبق وحاولتم مساعدة أحد كبار السن تعلم استخدام الأجهزة الالكترونية الحديثة أو استخدام الحاسوب مثلًا؟ هل لاحظتم أن هناك بعض التحديات والصعوبات التي تقف في طريق تعلمهم لهذه التقنيات الجديدة بالنسبة؟ هل تساءلتم عن سبب ذلك؟ مما لا شك فيه أن صغار السن يتمتعون بأدمغة عالية المرونة وقادرة على تعلم الأشياء الجديدة وإضافتها إلى رصيدهم المعرفي بسهولة بالغة ويعود السبب في ذلك إلى المرونة العصبية وهذه المرونة تفقد قوتها تدريجيًا مع التقدم في السن ويحدث هذا بالتزامن مع فكرة أنه كلما زادت أعمار المتعلمين يصبحون أكثر ثباتًا فيما تعلموه وعرفوه فيصبحوا بالتالي أقل تقبلاً للمتغيرات والأمور المستحدثة.
على عكس المتعلمين الصغار في الحصول على الرعاية والدعم لحدوث التعلم يصبح تعلم الكبار مسؤولية المتعلم نفسه مما قد يشكل عائقًا يقف أمام تعلمهم.
السؤال الآن: ما هو المقصود بمفهوم تعلم الكبار؟ وما هي نظريات تعليم الكبار؟
مفهوم تعلم الكبار Adult Learning
أشارت منظمة اليونسكو (UNESCO) إلى أن مصطلح تعلم الكبار المتفق عليه دوليًا يقصد به: “مجموعة العمليات التعليمية المنظمة سواء كانت رسمية أو غير رسمية التي تُمكن المتعلمين الكبار من إثراء معرفتهم وتحسين مؤهلاتهم الفنية أو المهنية التي تؤدي إلى تبني اتجاهات جديدة تنعكس على مواقفهم وسلوكهم وتسهم في مشاركتهم في التطوير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المتوازن والمستقل.”
بمعنى أن تعلم الكبار يشمل التأهيل والتحسين والتطوير في المجالات والميادين المختلفة.
نظريات تعلم الكبار Adult Learning Theory
نظرية التعلم عند الكبار أو البالغين أو ما يعرف علميًا بـاسم الأندراغوجيا (Andragogy) هي حقل علمي يهتم بدراسة وبحث الأساليب والطرق التي يستجيب لها الكبار بشكل أكثر كفاءة وفاعلية أثناء عملية تعلمهم ويشار لها أيضًا بأنها علم وفن مساعدة المتعلمين من كبار السن على التعلم وتتضمن هذه النظريات مجموعة من الفرضيات التي شرحت الطريقة التي يتعلم بها الكبار.
تهدف هذه النظريات إلى دراسة المجهود الذي يبذله الفرد من أجل النمو الذاتي الهادف الذي يُمارَس دون وجود أي ضغوط رسمية عليه ولا يُشترط أن يكون التعلم مرتبطًا بمؤسسة رسمية.
ولوقت ليس ببعيد كانت الطريقة المُتبعة بشأن تعليم الكبار هي نفسها الطريقة المُتبعة في تعليم الصغار وهذا يفسر المتاعب العديدة التي واجهت المتعلمون الكبار مثل قلة الدافعية للتعلم.
لتعليم الكبار تاريخ حافل بالإنجازات ما رأيكم أن تتعرفوا عليه؟
هيا بنا ن نلقِ نظرة على تاريخ هذه النظريات.
يرجع تاريخ نظرية تعلم الكبار إلى العشرينات من القرن الماضي عندما أشار عالم الاجتماع الألماني أيوجن روزينستوك (Eugen Rosenstock) بأن تعليم الكبار أو البالغين يحتاج إلى خبراء وطرق متخصصة وفلسفة خاصة لحدوث التعلم وقد كان العالم الأمريكي مالكولم نولس ( (Malcolum Knowlesمن مؤسسي ومقترحي نظرية تعلم الكبار ويشمل اقتراحه على أربع فرضيات وهي:
- المتعلمون الكبار موجهون ذاتيًا
لأن التعلم الذاتي يركز على أن المتعلمين هم المسؤولون عن عملية تعلمهم ووضع أهداف هذا التعلم وتحديد المصادر المناسبة للتعلم والطرق الأنسب له، لذلك ينبغي تشجيع المتعلمين الكبار على البحث عن المعلومات وتحليلها وإتاحة الفرصة لهم لاتخاذ القرارات الخاصة بعملية تعلمهم والابتعاد عن مجرد نقل المعلومات.
- المتعلمون الكبار يمتلكون القواعد المعرفية بشكل مسبق
بمعنى أنهم يمتلكون حصيلتهم من العلم ولا يجوز إهمال تجاربهم وخبراتهم الثرية لذلك يكون دور المتعلمين الكبار نشطًا في التخطيط للتجارب والأنشطة وتعتبر هذه النقطة عنصرًا أساسيًا للكبار الأمر الذي يجعل من السهل على المتعلمين الكبار الاحتفاظ بالمعلومات عند ربطها بواقع حياتهم وخبراتهم السابقة.
- المتعلمون الكبار على وعي باحتياجاتهم التعلمية المرتبطة بحياتهم الواقعية
لذلك يجب أن يعرفوا لماذا عليهم تعلم هذا المحتوى تحديدًا وكيف سيستفيدون منه في حياتهم الخاصة وبالتالي يجب أن تكون احتياجات واهتمامات المتعلمين الكبار المنطلق لأي تدريب أو عملية تعلّم.
- المتعلمون الكبار بحاجة إلى الدوافع والمحفزات
هنا لا يختلف تعليم الكبار عن تعليم الصغار فالكبار مثل الصغار تمامًا يحتاجون إلى التحفيز المستمر.
ثم جاء العالم الأمريكي روبرت بايك (Robert Bike) ووضع مجموعة محددة تختص بتعليم الكبار أطلق عليها اسم “قوانين بايك (Bike) لتعلم الكبار” شرحها في كتابه ” تقنيات التدريب الإبداعي نصائح وتكتيكات وإرشادات لتقديم تدريب فعال” وهي:
- القانون الأول: الكبار هم أطفال في أجسام كبيرة
بنفس الطريقة التي يتعلم بها الأطفال يمكن أن يتعلم الكبار من خلال تعزيز مشاركة الكبار في عملية تعلمهم ويتم ذلك من خلال الأنشطة أو الألعاب التدريبية التي يتم تنفيذها أثناء الموقف التدريبي لذلك يتعين على المعلم أو المدرب تصميم الأنشطة التدريبية بما يتناسب مع أعمار الفئة المستهدفة وتنشط في نفس الوقت أجزاء مختلفة من العقل.
- القانون الثاني: الكبار لا يُجادلون في معلوماتهم الخاصة
من المهم جدًا مراعاة أهمية الخبرة السابقة الموجودة لدى الكبار عند العمل على تعليمهم، كما يجب مراعاة أن المتعلمين الكبار يتحمسون للوصول إلى المعلومات بأنفسهم بدلأً من تقديمها لهم لذلك عند تدريب وتعليم الكبار يُفضل أن تُقدم لهم أنشطة تولد الأفكار والمفاهيم الجديدة التي لم يسبق لهم تعلمها أو أنشطة تعتمد على التعلّم بالعمل كما يجب التركيز بشكل كبير على طرح الأسئلة فهي من الاستراتيجيات المستخدمة في تعليم الكبار.
- القانون الثالث: التعلم يتناسب طرديًا مع المتعة لدى المتعلم الكبير
لقد أظهرت الدراسات والأبحاث المختلفة أن الأشخاص يتعلمون بشكل أكبر وأفضل عندما يتعملون في بيئة يتوفر فيها المتعة والفرح والإثارة.
بالتأكيد أنكم تلاحظون أن القانون الرابع يرتبط ارتباطًا كبيرًا بالقانون الأول، كيف؟ يمكن توفير المرح وحس الدعابة من خلال الأنشطة والألعاب التعليمية التي يتم دمج الكبار بها.
ولا ننسَ أن حس الدعابة هو الأداة التي يتم من خلالها التقليل من حدة التوتر والإجهاد أثناء وقت التدريب والتعليم مما يجعل بيئة التعلم مريحة لكل من المدربين والمتعلمين على حد سواء.
- القانون الرابع: تعلم الكبار لا يحصل إلا إذا تغير السلوك
يمكن قياس تعلم الكبار من خلال السلوكيات المرتبطة به حيث لا يمكننا قياس التعلم نفسه لكن يمكن ملاحظة وقياس مقدار التغير السلوكي للمتعلمين الكبار.
فكروا بهذه الطريقة، عندما يحدث التعلم بالتأكيد يبدأ الكبار في التصرف بشكل مختلف ويبدأون بقراءة المزيد من الكتب ويطلبون المزيد من المعلومات ويبدأون بتطبيق ما قرأوه وما تعلموه وهذا سينعكس حتمًا على سلوكهم.ويؤكد بايك (Bike) أن اللغة التي يستخدمها الكبار سواء كانت لغة الجسد أو لغة التواصل المستخدمة هي أفضل مؤشر على حدوث التعلم.
- القانون الخامس: الكبار يعرفون بمقدار ما يفعلون
قانون بسيط للغاية لأن التعلم بالنسبة للبالغين والكبار هو ما يمكن أن تفعله وليس ما تعرفه وهذه طريقة جيدة لقياس ما تعلمه الكبار حيث أن التجارب التي تتيح للكبار فرصة تطبيق ما تعلموه تزيد من احتمالية الاحتفاظ في المعرفة الجديدة وتطبيقها في مواقف مشابهة.
أثناء حدثينا عن النظرية الخاصة بتعليم الكبار لا يمكن إهمال ما قدمه العالم مالكوم نولز (Malcolum Knowles) من فرضيات تصف خصائص المتعلمين الكبار وينبغي أن تتوافر في أي برنامج لتعليم وتدريب الكبار وهي:
- لدى المتعلمين الكبار مفاهيمهم المستقلة التي توجه طريقة تعلمهم.
- لدى المتعلمين الكبار مجموعة من تجاربهم الشخصية التي تُعتبر مصدر تعلمهم.
- لدى المتعلمين الكبار حاجات تعليمية مرتبطة بتغيير دورهم في المجتمع.
- المتعلمون الكبار يتمركز تعلمهم حول حل مشكلاتهم، ويفضل أن يتم تطبيق المعرفة مباشرة عند تلقيها.
خصائص المتعلمين الكبار
إن فهم كيفية تعلم الكبار يلعب دورًا أساسيًا في تفعيل عملية تعلمهم وفي تصميم أنشطة تعلمية مناسبة لاحتياجاتهم واهتماماتهم، لهذا ينبغي التعرف على خصائصهم التعليمية قبل البدء بتصميم أي نشاط تعليمي، ويُمكن أن نجمل هذه الخصائص في الآتي:
- المتعلمون الكبار مستقلون وموجهون ذاتيًا: إن المتعلمين الكبار هم أحرار في توجيه أنفسهم لذا يجب أن يشاركوا بشكل فاعل في عملية تعلمهم، وأيضاً يجب أن يكون لهم دور في اختيار المواضيع التي سيتم تعلمها بحيث تكون نابعة من حاجاتهم وتركز على المشاريع المرتبطة بواقعهم. ويتطلب تعليم الكبار أن يكون للمتعلمين دور أساسي في تحمل مسؤولية تعلمهم ودور قيادي في عملية تعلمهم وذلك من خلال إشراكهم في وضع الأهداف والتخطيط لتحقيق هذه الأهداف.
- المتعلمون الكبار هم أشخاص ذوو معارف وخبرات في حياتهم: لذا يجب التركيز أثناء تعليمهم على تصميم أنشطة ومهام مرتبطة بواقعهم لأنهم يتعلمون بطريقة يكون أساسها ربط معارفهم السابقة بالمعرفة المراد اكتسابها، كما يجب أن يتم تطبيق النظريات والمفاهيم المجردة بطريقة عملية.
- المتعلمون الكبار موجهون نحو تحقيق الأهداف: يعرف المتعلمون الكبار الهدف الذي يريدون تحقيقه لذا هم يفضلون الأشطة التعليمية المنظمة وواضحة الأهداف مع وضوح الإجراءات اللازمة لتحقيقها.
- المتعلمون الكبار هم عمليون في تناولهم للمواضيع: لذلك يجب التركيز في عملية تعلمهم على المواضيع المفيدة في حياتهم العملية وأن ينعكس هذا التعلّم على طريقة أدائهم.
- المتعلمون الكبار يحتاجون إلى الاحترام شأنهم في هذا شأن كل المتعلمين حيث أنهم أشخاص ذوو خبرات ومعارف سابقة يجب إشراكهم في عملية التعلم والأخذ برأيهم.
تقول روزالين سوزمان (Rozalin Sozman): “متعة التعلم هي ما يفصل الشباب عن الشيخوخة، طالما أنت تتعلم فإنك تبقى شاباً.”
بكل تأكيد لاحظتم أن تعلم الكبار يختلف اختلافًا واضحًا عن تعليم الصغار في العديد من المبادئ والأفكار ذلك أن الفئة المستهدفة مختلفة وكون المتعلمين الكبار لا يُمكن إجبارهم على التعلم وتقييدهم في قاعات دراسية، وهذا يتطلب تبني استراتيجيات وأساليب مختلفة لجذب المتعلمين الكبار لعملية التعلم وجعلهم يشعرون بقيمة ما يتعلمونه ثم تحفيزهم على تطبيقه في حياتهم العملية والشخصية فالتعلم متعة مهما تقدم بكم العمر.